العقاقير والأمراض العقلية
عناصر المقال
عانى المرضى العقليين على مدى التاريخ فلم يكن هناك أمل في شفائهم من الاضطرابات التي أصيبوا بها خلال حياتهم، أو تلك
التي ولدت معهم منذ أن خرجوا إلى هذه الدنيا من بطون أمهاتهم.
وكان التعذيب المستمر والمنهجي هو الوسيلة الوحيدة للسيطرة على نوبات الصرع التي كانت تهاجمهم، بالإضافة إلى عزلهم
بعيدًا عن التجمعات البشرية، حتى لا يؤذون بتصرفاتهم الآخرين من الأسوياء، بجانب أن الإصابة بتلك الأمراض كانت وصمة عار
تطارد العائلات التي يقع أبنائها ضحايا لها.
ومع تطور العلوم ومن بينها العلوم الطبية، ودخول العقاقير الطبية ضمن العلاجات الخاصة بالأمراض العقلية، تبددت المخاوف كثيرًا
التي كانت تلاحق المصابين بها وذويهم، خصوصًا وأن نتائج الشفاء أصبحت مرتفعة أكثر رغم الوقت الزمني اللازم لتحقيق هذه الأدوية
لتأثيرها الفعال على تلك الاضطرابات.
وخلال مئات السنوات لم يكن هناك ما يسمى بالأمراض العقلية، بل كان يطلق لفظ (مجانين) على من يصابون بهذه النوعية من
الاضطرابات، فتصرفاتهم الغريبة كانت تدفع الآخرين إلى الاعتقاد بأن هناك أرواحًا شريرة تسكنهم، أو أن هؤلاء فيهم جزء مما تتألف
منه أجساد الشياطين، ولذلك فقد كانوا على الدوام يثيرون الرعب والفزع أينما وجدوا.
الموصلات العصبية مصدرها:
والأمراض العقلية لا يعرف على وجه التحديد أسبابها، وبالرغم من ذلك فمكان الإصابة العضوي المسبب لها معروف وهو المخ
البشري، والذي يعتبر من أكثر الأعضاء البشرية وكذلك الظواهر الكونية تعقيدًا، ويرجع ذلك إلى أنه يتألف من آلاف البلايين من
الخلايا العصبية المربوطة فيما بينها بطريقة فريدة للغاية، ومن الممكن أن تتعرض تلك الموصلات العصبية لبعض الأضرار أو الإصابات
التي تحول دون عمل المخ بشكل صحيح فتضطرب تصرفات الإنسان بالشكل الذي يجعلها تبدو غريبة وغير منطقية.
ونتيجة للتأخر العلمي في الماضي ورسوخ بعض المعتقدات المغلوطة عن تعرض المصابين بالأمراض العقلية إلى مس شيطاني
أو الإيذاء من قبل الأرواح الشريرة التي تسكن أدمغتهم، فقد كانت أول طريقة لعلاجهم هي ثقب جماجمهم لإخراج تلك الأرواح
الشريرة والشياطين منها.
العقاقير والأمراض العقلية
وتنوعت طرق تعامل الشعوب القديمة المختلفة مع تلك المشكلات العقلية، وهو الأمر الذي يؤكد أنها كانت ظاهرة جذبت انتباه
الأسلاف في السابق، فعلى سبيل المثال ربط الرومان القدماء بين الأمراض العقلية وتغير شكل القمر في السماء، وبالإضافة
لذلك فقد ظهرت النوبات العقلية في شكل تصرفات قام بها عدد من حكامهم الذين أسرفوا في القتل والاغتصاب وتمجيد
الحيوانات، ولاحقًا ومن خلال الدراسات التاريخية فقد تأكد للعلماء أن كل تلك التصرفات كان مصدرها الأساسي إصابة هؤلاء
الحكام ببعض المشكلات العقلية كالفُصام العقلي، وبعض الاضطرابات النفسية الأخرى التي كان سببها الرئيسي أيضًا مشكلات
عضوية في المخ.
جرائم ما بعد زمن المسيح (عليه السلام):
وبعد الفترة التي تلت ظهور المسح عيسى بن مريم (عليه السلام) ودعوته للتسامح وحقن الدماء الإنسانية، فقد واجه المرضى
العقليين حملات قمعية عنيفة فتكت بهم في كل مكان على وجه الأرض، فكانوا يجلدون ويحرقون ويقطعون إربًا من أجل أن يتم
معاقبة الشياطين والأرواح الشريرة التي تسكنهم.
ومع توغل الكنيسة ورجال الدين المسيحي في الحكم خلال القرون الوسطى في أوروبا جرى اعتبار المرضى العقليين سحرة أشرار،
فصدرت الفتاوى باستباحة دمائهم، ومن هنا فقد قتل الآلاف منهم دون رحمة، ومع مرور الوقت وتضارب الآراء حولهم ابتكرت وسائل
العقاب الأخرى والتي كان من بينها تصفية الجسم من السوائل الموجودة فيه، ومن بينها بطبيعة الحال الدماء البشرية التي سالت
وتدفقت في كل مكان حل فيه المرضى العقليين.
كما ابتكرت وسائل أخرى لتخليص المرضى العقليين مما هم فيه كان أبرزها كراسي التعذيب، والتي كان المرضى يقيدون فيها مع
وضع الغمامات حول أعينهم، وبعد ذلك يجري تجريح أبدانهم بالآلات الحادة من أجل أن تسيل الدماء منهم، وبعد ذلك يجري وضع
بعض الطفيليات والحشرات على الجروح لتتغذى على تلك الدماء.
الحبس بعد الثورة الصناعية:
مع بدايات عصر الثورة الصناعية استبعدت كل هذه الأساليب والطرق الوحشية التي كان يعامل بها المرضى العقليين، وتم استبدالها
بحبسهم في أماكن بعيدة لعزل عن المجتمع، من أجل أن لا يسببوا الأضرار لغيرهم، وإن كان ذلك يرجع في الأساس إلى انحصار
الأفكار التي تدعي ملازمة بعض الأقران الشيطانية لهم والأرواح الشريرة.
وبالرغم من أن أماكن احتجاز المرضى العقليين تعتبر أفضل نسبيًا مما كان يحدث لهم في السابق، إلا أنها لم تكن أفضل كثيرًا، فقد
كانت الأوضاع داخلها مأساوية إلى حدٍ كبير، حيث كانوا يتركون دون أية عناية على حالة مذرية من القذارة إلى أن يلحقهم الموت.
سيجموند فرويد.. مرحلة تبدل الأحوال:
مع ميلاد أفكار العالم النمساوي سيجموند فرويد مع نهاية القرن التاسع عشر، تبدلت الأحوال بسرعة، حيث كان يرى أن المرضى
العقليين ليسوا في حاجة إلى قيود وزنازين يسجنون فيها، بل هم في حاجة إلى بعض الأدوات التي تمكنهم من تكسير بعض القيود
التي توجد داخل عقولهم وتحول بينهم وبين التفكير بشكل منطقي سليم مثل باقي البشر الآخرين.
ومن ضمن تلك القيود كان فرويد يعتقد أنها قد ترجع لبعض الصدمات النفسية التي من المحتمل أن يكون الشخص المريض قد تعرض
لها خلال مرحلة طفولته، ومنها على سبيل المثال: تأنيب الوالدين المستمر له، أو رؤية أمه وهي عارية، أو حتى مشاهدته لأبيه وأمه
وهما يمارسان المعاشرة الجنسية، ومن هنا نشأت بداخله بعض المشكلات النفسية التي تسبب في حدوث آثار عكسية على بعض
المراكز الحسية في المخ، وأدت بلا شك إلى إعطابها ومنعها من القيام بوظائفها بشكل صحيح.
“الزهري” في القرن العشرين.. محاربة النار بالنار:
وخلال القرن العشرين ظهرت مشكلة أخرى دفعت بالكثيرين إلى السقوط صرعى في براكين الأمراض العقلية التي لا تهدأ. كانت
هذه المشكلة هي مرض الزهري، والذي كان سببًا رئيسيًا للإصابة بالخبل، حيث انتشرت بصورة كبيرة الجراثيم المسببة لهذا
المرض والتي تؤدي إلى تلف بعض أجزاء الدماغ، وبالتالي تهاجم نوبات من الاضطرابات الشديدة الشخص المُصاب وتدفعه للقيام
ببعض التصرفات الغاية في الجنون، مثل القفز من الأماكن المرتفعة، أو حتى إشعال الحرائق الكبيرة.
العقاقير والأمراض العقلية
ومن خلال أحد الأطباء الذين كانوا يسكنون مدينة فينسيا ويدعى جوليوس فان يوريج أمكن إيجاد علاج مباشر لهذا المرض القاتل،
وكان ذلك عام 1917، عن طريق تسخير جراثيم مرضية لقتل جراثيم مرض آخر، حيث تمكن من خلال حقن مرضى الزهري ببعض
جراثيم مرض الملاريا الخفيفة من إحداث نوع من الحمى داخل أجسامهم، نتج عنها قتل جراثيم الزهري وشفائهم منه.
وتعتبر نتائج هذه العلاجات مذهلة حيث تم خلال أسابيع قليلة شفاء المئات ممكن كانوا يعانون من الرعشة العصبية وبعض اضطرابات
التفكير، وبذلك أمكن ولأول مرة في التاريخ البشري إيجاد دواء محدد لمرض عقلي محدد، وكانت تلك الطريقة في العلاج هي التي
أشارت إلى أن التغييرات الفيزيائية التي يمكن أن تقع داخل الدماغ نتيجة بعض المؤثرات الخارجية هي التي قد تؤدي إلى علاج
بعض مشكلات المخ والتفكير.
التوسع في العلاجات الفيزيائية:
نتيجة لذلك النجاح الذي حققه الطبيب فان يوريج، قام أطباء آخرون مدفوعين بالحماسة التي أنتجها إلى العمل على إيجاد علاجات
فيزيائية للأمراض العقلية الأخرى، وكان الفُصام في مقدمة تلك الأمراض، حيث وجد هؤلاء الأطباء أن مرضى الفُصام العقلي نادرًا
ما يصابون بالتشنجات العصبية، وبالتالي فلو تم إحداث تلك التشنجات بشكل مصطنع فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تحسن حالات المرضى.
وكانت البداية بإعطاء الأنسولين لهؤلاء المرضى، فذلك المركب الطبي يعمل على تخفيض نسبة الجلوكوز في الدم، مما يسبب
الدخول في غيبوبة عميقة، وبالفعل فقد أثبتت هذه الطريقة فعاليتها الكبيرة خصوصًا لدى المرضى المصابون بالاكتئاب الحاد، ولكن
كان لهذه الطريقة بعض الآثار الجانبية ومن بينها إصابة المرضى بكسور في العمود الفقري نتيجة التشنجات العنيفة التي تحدث
لهم، وبذلك بقيت السيطرة على حالاتهم غير مضمونة العواقب.
الكهرباء تُقصي الأنسولين:
بالبحث والتطوير أكتشف طبيبين إيطاليين دور الكهرباء في إثارة التشنجات العصبية مع إبقاء المرضى تحت السيطرة، حيث جرى فيما
بعد استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية على نطاق واسع، وتم التخلي عن الأنسولين نهائيًا.
ورغم تفاوت نتائج العلاج بالصدمات الكهربائية إلا أنه مكن الكثير ممن أصابهم الحزن واليأس بالشلل من استعادة بعض نشاطاتهم
وتقبلهم للحياة، وهذا العلاج في حد ذاته يعمل على تهدئة أنماط التفكير المضطربة داخل الدماغ، وبالتالي يمكن على المدى
القصير والطويل تحسن حالات المرضى نتيجة لعودتهم للتفكير بطريقة منطقية ومنظمة، فذلك الأمر يسمح لمشاعرهم وعواطفهم
أن تتكيف بصورة أكبر مع الواقع.
الطب يعيد اكتشاف نفسه:
في عام 1952 حدثت ثورة في مجال الطب النفسي والعقلي تمثلت في العلاج بالعقاقير الطبية، والتي كانت بمثابة الحل المنقذ
بعدما مُلئت المصحات النفسية مرة أخرى بالآلاف من المرضى العقليين الذين لم تستجب حالاتهم للعلاج بالصدمات الكهربائية،
ولكن تجدر الإشارة إلى أن العلاج النفسي بالعقاقير المصنعة من بعض الأعشاب الطبيعية قديم قدم الطب نفسه، حيث كان الأطباء
والعلماء يستخدمون هذه الطريقة منذ عشرات القرون، وفقط الطب الحديث يعيد اكتشاف هذه الأعشاب ويقوم بتطويرها على نحو
أفضل مستغلًا التقدم الذي طال عملية التصنيع الدوائي، وكذلك الإمكانيات الهائلة لتشخيص الأمراض والتي لم تكن موجودة في السابق.
العقاقير والأمراض العقلية
وبالعودة مرة أخرى إلى ما حدث في عام 1952 فقد أحدث عقارًا طبيًا صنع من أجل منع الغثيان الذي يعقب التخدير الطبي قبل العمليات
الجراحية تأثيرًا فعال وبالغ الأثر على علاج الأمراض النفسية والعقلية، وهذا العقار يسمى ثورازين.
أنتشر الأمل بعد ذلك عند الأطباء والمرضى المحاصرين في المصحات العقلية، فنتائج هذا الدواء بعثت بروح جديدة، حيث بيع من هذا
العقار ملايين العبوات، كما غذت ثورة علاج الأمراض النفسية والعقلية بالعقاقير الطبية روح البحث واكتشاف وتصنيع عقاقير أخرى،
ومع حلول عام 1970 كان الطريق ممهدًا أمام جيل جديد كامل من هذه العقاقير جاء في طليعتها عقار الفاليوم.
ويمكن القول إن اكتشاف العقاقير الطبية التي تعالج الأمراض العقلية، أعاد طب الأمراض العقلية إلى الاتجاه العام في الطب، كما
جعلها تبدو على نفس نمط الأمراض الأخرى، وأصبح بالتالي الأطباء النفسيين أطباء حقيقيين بدلًا من أن كانوا موظفي خدمات
اجتماعية في المصحات العقلية.
العقاقير والأمراض العقلية
ومن خلال عمل الباحثين على جزء معين في الدماغ يطلق عليه المرسلات العصبية وجدوا أن المرضى النفسيين والعقليين مصابون
بوجود فجوة بين تلك المرسلات تمنع الإشارات العصبية من الوصول بشكل صحيح بين مراكز التفكير والعاطفة… إلخ، وبالتالي
تمكنت هذه الأدوية الكيميائية من القضاء على تلك الفجوة أو التقليل من وجودها على الأقل، وكان من شأن ذلك أن يعود المرضى
النفسيين والعقليين إلى التمتع بقدر كبير من الصحة الجيدة والاتزان النفسي والعقلي.
كما وجد أن الاختلال في مستويات مركب السيروتونين الموجود داخل المخ هو المسئول عن وجود تلك الفجوة المسئولة عن
حدوث تغيرات سلبية في المزاج، لذا وجد أن العقار الذي يعالج هذا الخلل الموجود في السيروتونين يؤدي إلى علاج الاكتئاب،
لذلك كان عقار البروزلام واحدًا من أكثر العقاقير مبيعًا في جميع الأوقات، حتى إنه بيع منه خلال أول سنتين بعد تصنيعه نحو
26 ألف عبوة شهريًا في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.